ألذلك اعتبر الشاعر الفرنسيُّ الكبير "شارل بودلير" قبل قرنٍ ونصف، الرّسامَ الفرنسيّ "كنستانتان جي" (Constantin Guys)، والذي كرّس لوحاته الفنية للشوارع والمشي فيها، "رسّامَ الحياةِ الحديثة"، في مقال بنفس العنوان، والذي تحول في ما بعد إلى كتاب، وحَسبَه "العاشقَ الولهان للحشود" و"إنساناً في العالم"، لتُلفتَ نظرتُه هذه في ثلاثينيات القرن المنصرم، الفيلسوفَ الألمانيّ الكبير، "فالتر بنيامين"، ويبني عليها نظريتَه الذكية والمهمّة والمتمحورة حول "المتسكَع" (Flaneur)، وأهمية المشي والتسكّع في الشوارع كظاهرة بارزة من ظواهر الحياة الحديثة المدنية والمعتمدة على رأس المال والحداثة، شئنا أم أبينا؟
ماذا لو حلّ كلّ واحد/واحدة منّا محلّ "كونستانتان جي"، وسِرنا في الشوارع، وخلقْنا عملنا الفنيَّ الخاصّ بنا، سواءً كان لوحة حقيقية أم مجازية، فكرةً أم رؤية، بعضَ السّطور عن مرورِنا بالشّارع أم صمتاً متأملاً فقط، أم تسكَّعنا من أجل التسكُّع فقط، وقد أصبح بالنسبة لنا قيمةً شخصية وجماعية في حياتنا اليوم؟ فحتى إن لم نكن نملك عينيْ "كونستانتان جي" الثاقبة والفاحصة للمكان أثناء السير والتسكّع، يصدق علينا، ولابدّ، تعريف بودلير: "إنسانٌ في هذا العالم".
هل تخيلتم يوماً أن يكون تسكّعنا في الشوارع عملاً فنياً؟ أننا ونحن نسير في الشوارع، في مدننا أم في مدن الآخرين أو بالأحرى المدن الأخرى، نرسم صوراً لها ولأنفسنا فيها؟ ألذلك اعتبر الشاعر الفرنسي الكبير "شارل بودلير"، الرّسامَ الفرنسيّ "كنستانتان جي" والذي كرّس لوحاته الفنية للشوارع والمشي فيها، "رسّامَ الحياةِ الحديثة"؟
في "رصيف22" وفي قسم "رود تريب"، خلال الملف الخاصّ بشهر كانون الأول/ديسمبر المبشّرِ بالعام الجديد والسّفر والعُطَل ودفءِ العودة إلى أرواحنا، رغم بَردِه، نريد أن نسيرَ معاً في الشوارع، نتسكّع سويّاً فيها، ونُمعن النظرَ بها وكأننا مكتشفو المكان بوصفِه مصدراً لمعرفة حياتنا المدنية في العالم الحديث، ومن ثَمّ الحياة بمعناها البحت، وعلاقتنا بها.
يأتي هذا الملفّ ليعرّفنا على أجمل وأبرز الشوارع في مدننا، وهي التي شهد معظمُها، في نفس الوقت، على أهمّ الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شكّلت وتشكّل حياتَنا اليوم، فأضافت قصصاً وأبعاداً إلى هذه الشوارع. نريد هنا أن نتسير معاً في مدنِنا العربية والشوارع العربية في بعض المدن الغربية، ثمّ الشوارع التي يقصدها العربُ سيّاحاً في مدنٍ قريبة وشقيقة بنوعٍ أو بآخر كإسطنبول وطهران وتبليسي.
يأتي هذا الملفّ ليعرّفنا على أجمل وأبرز الشوارع في مدننا، وهي التي شهد معظمُها، في نفس الوقت، على أهمّ الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شكّلت وتشكّل حياتَنا اليوم، فأضافت قصصاً وأبعاداً إلى هذه الشوارع
تقديراً للمشيِ في الشوارع، ومقدّمين تحياتنِا إليها، نستقبل في هذا الملفّ عامَنا الجديد بالتسكّع في الشوارع والأزقّة، وهكذا نسير في ذواتِنا، ونستمتع بلذّة العيشِ في المدن والمشي فيها، ملتفتين إلى هذه الحقيقة التي أهدتنا إياها الحياةُ الحديثة، ومتصالحين معها، فليس كلّ حديثٍ يبعدنا بالضرورة عن الرّوح والمعنى كما يُخيّل إلينا، بل ليس دائماً هي الطبيعةُ ما تجعلُ أعينَنا في الجسم والرّوح تنظر إلى أرواحنا، بل المدن وشوارعها أيضاً هي طرقً نسلكها، فنبلغ الوجدَ والفلاحَ الذي نرومُه؛ فالفلاحُ في عصرنا الحديث قد يأتي من خلال السّير في الشوارع، ولمَ لا؟
وكمسكِ ختامٍ لهذه الافتتاحية نذكر قولَ العارف والصوفي أبي يزيد البَسطامي الذي قال في القرن الثالث للهجرة: "نزلتُ إلى الصحراء، وكان قد هطل الحبُّ؛ كما لو أن القدمُ تنغمس في الثّلج، كانت تنغمس في الحبّ"، لنسيرَ خلال هذا الشّهر في الشوارع، وأقدامنا تنغمس في الحبّ، وتنادي الحياة: "سيري ببطْءٍ، كالإناثِ الواثقاتِ بسحرهنّ وكيدِهنّ"، كما قال شاعرُنا العزيز محمود درويش.